الإعلام الرياضي- صدمة التقنية والبحث عن هوية جديدة.

المؤلف: فواز الشريف08.27.2025
الإعلام الرياضي- صدمة التقنية والبحث عن هوية جديدة.

دعونا نقرّ ونعترف بمرارة أن حقل "الإعلام" بأكمله قد اهتز بعنف جرّاء الصدمة التي أحدثتها "وسائل التواصل الاجتماعي"، تلك الصدمة التي زعزعته وأفقدته اتزانه، وربما أزاحت قدمه عن عرشه، ولا يمكن إلقاء اللوم على جهات معينة، بل يرجع الأمر إلى التوجه الجارف نحو عالم التقنية المتقدمة وما يعرف بالذكاء الاصطناعي، هذا العالم الرحب ذو البث المفتوح الذي وجد فيه خبراء العلاقات العامة والتسويق فرصاً ذهبية لتقويض سلطة "السلطة الرابعة"، وسلبها نفوذها، وتحطيم جبروتها، والاستحواذ على جمهورها العريض، واحتلال مكانها المرموق.

لقد تأثرت مملكة الصحافة الرياضية بشكل مباشر وملموس، ووجدت نفسها في مواجهة شرسة أمام التحولات الجذرية في المفاهيم "الإعلامية"، وظلت على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية تقدم تنازلات جمة من أجل البقاء على قيد الحياة، ولو على هامش الأحداث الجارية، وقد ألحق بها التسويق أضراراً بالغة، إذ حوّل الفرد "الإعلاني" المتمرس إلى "إعلامي" بامتياز، وسحب البساط الأحمر من تحت أقدامنا في أحلك الظروف، في الوقت الذي كنا فيه بأمس الحاجة للدعم والمساندة من أجل الصمود والثبات، ولم يسعفنا الحظ للدفاع عن الفكرة الجوهرية التي يتبناها الإعلامي تجاه الإعلاني على أقل تقدير، وبات وضعنا أشبه بمن يقف أمام شباك التذاكر، وكأننا عارضو أزياء يتفوقون علينا في الألوان الزاهية والبراقة، بينما نتشبث نحن بالإتيكيت والبروتوكول.

أدرك تمام الإدراك أن هذه الموجة العاتية ليست سوى بداية لسلسلة من التغيرات الهائلة القادمة، ولكن دعونا على الأقل نسعى جاهدين لإحياء صحافتنا الرياضية واستغلال الأدوات التقنية الحديثة وعالم الاتصال المباشر ونظام العمل عن بُعد لتحقيق أهدافنا المنشودة.

دعونا نفكر بصوت عالٍ، ونحن الذين حققنا النصر في جولة الإعلام سابقاً، حينما تمكنا من تصدير صحافة رياضية متخصصة بكل ما تحمله من معاني، وامتلكنا سيناريو سرد الخبر وتصوير المشهد بكل احترافية، دعونا الآن لا ننشغل بتحقيق مكاسب مادية بقدر ما نركز على ضرورة التعاون وتكاتف الجهود لتقاسم "رغيف الخبز" والمحافظة على وجودنا في مواجهة هذا الواقع الجديد الذي يفرض نفسه بقوة، فمهنة الإعلامي - وأقصد الإعلامي الرياضي الذي هو مكاني وموطني الذي نشأت وترعرعت فيه - تتحول بين أيدينا إلى كيان آخر مختلف، ومكان مهجور من رواده وأساتذته، له طريقته الخاصة وأدواته المتطورة، وفي المقابل أعرف جوهرة ثمينة، وأشارككم البحث عن طريقة مبتكرة لإعادة البريق إلى مسرح الأحداث بعد انهيار المؤسسات الإعلامية العملاقة واختفاء أخرى، ليحتل مكانها مؤسسات تسويقية صغيرة ومنتشرة وبأقل التكاليف، ويرى فيها الجمهور البديل الذي يلبي طموحاته وتطلعاته.

الإعلامي هو حرفي ماهر يكاد يشبه "صائغ المجوهرات" المبدع، وهي مهنة قيّمة وثرية وأكثرها سحراً وجمالاً، ولكنها من المهن التي بدأت تتلاشى وتندثر، ولو عدنا إلى تاريخها العريق، فلن يتبقى من الأسماء اللامعة سوى أولئك الذين تحولوا من العمل الفردي المتواضع إلى شركات عملاقة، ومن مجرد أفراد إلى آلات ضخمة، وأنا في صميم كتابتي هذه لا أعني شغف الإعلام الرياضي العارم بقدر ما أركز على مصادر دخله في مهنة أصبحت مغايرة تماماً لما كانت عليه في السابق، ولها أدوات مختلفة كلياً، مهنة أصبحت أسيرة الهاشتاق والترند، وهو ما يدفعها قسراً نحو الوجه الذي كنا نتجنبه طوال مسيرتنا المهنية، وجه الخط الفاصل بين اللون الأصفر وبقية الألوان الأخرى.

لقد اختفى "الدباغ" و"الصباغ" و"الحطاب" وغيرهم من أصحاب الحرف اليدوية الفريدة التي كانت تميز عمل الفرد عن غيره من زملائه وأقرانه، وفي الطريق تلوح في الأفق مهن أخرى ستختفي وتتوارى عن الأنظار، وهذه حقيقة لا مناص من تقبلها والاعتراف بها، ومن بينها الإعلام الرياضي بكل أسف، فاللاعب بات قادراً على صياغة قصته بنفسه وكذلك المدرب والإداري ونشرها على الملأ، وينطبق الأمر ذاته على جميع مكونات العمل الرياضي، لذلك بدأت أبحث جاهداً ومنذ وقت طويل عن بعض الأفكار الخلاقة التي يمكن أن تؤخر هذا المصير المحتوم أو تخلق منه واقعاً جديداً ومشرقاً، مثل أن تتشكل مجموعات إعلامية رياضية قوية يقودها الاتحاد الدولي للصحافة الرياضية على الأقل من خلال تنويره بشكل مستمر بما يحدث من حوله عبر جلساته النقاشية ومنصته الإعلامية لاستغلال الأدوات التقنية المتاحة والعالم المفتوح ونظام العمل عن بُعد في إنشاء كيانات ووكالات أنباء رياضية صغيرة تضم محررًا متميزاً في الصين ومصوراً فوتوغرافياً محترفاً في إيطاليا ومنتجًا مبدعاً في أمريكا وموهبة خلاقة هنا في جدة، ينقبون جميعاً عن المعلومة الدقيقة والحصرية كما ينقب الصائغ الماهر عن الحجر الكريم النفيس، ويكتب بعين المراقب المحايد لا بلسان الدعاية الرخيصة، كأن يعرف متى يصمت ليمنح الحدث هيبته وجلاله، ومتى يتكلم ليمنح الرأي قيمته وأهميته.

لقد تنازل الإعلامي الرياضي - وهو صلب حديثي - عن بعض من أدواره الجوهرية لمن لا يتقن سوى الترويج والإعلان، فاختلطت المهنة بالوظيفة، وطمست الحدود الفاصلة بين (الإعلامي) و(الإعلاني)، فاختفت الروح العذبة وبقيت الصورة الباهتة، وتوارت اللغة الرقيقة والقوة الناعمة وبناء العلاقات المتينة وتشييد الانطباعات الجميلة وتمثيل المناسبات بما يعطيها ثقلاً معنويّاً لتصبح مجرد مناسبة تسويقية باهتة لا أكثر يتحكم بها المال والنفوذ.

أصدقكم القول بكل تجرد وشفافية اليوم، لم يعد الإعلامي الرياضي متواجداً في قلب المعركة الإعلامية الشرسة، وفي قلب الحدث المثير، بل أصبح مهمشاً على هامش كل شيء، وأصبحت جميع المهن الأخرى تتسابق للانتقام منه وممن يمثلونه، في عالم قاسٍ يقيس النجاح بعدد المشاهدات بغض النظر عن طبيعة المشهد وأهميته وتأثيره.

لم يكن التحوّل الذي تعيشه الصحافة الرياضية تحولاً سلساً وهادئاً، بل جاء عنيفاً وقاسياً ومدمراً، فقد أُقصي المراسل الميداني الذي كان يعد تقاريره الحصرية من قلب الحدث ليحل محله محتوى سريع وعابر وواجهات براقة خالية من المضمون، واستُبدل الكاتب الذي كان يمضي ساعات طوال بين السطور المرهقة بنص آلي يُنجز في ثوانٍ معدودة. لم يعد يُطلب من الإعلامي أن يُبدع ويبتكر، بل أن يُكرر ما يقال دون تفكير عميق، ولا يُناقش، وأن يملأ الفراغ دون إثارة الأسئلة الجوهرية.

وسط هذا الواقع الضبابي الملبد بالغيوم أجدني مندهشاً وحائراً "أبحث عن ذاتي فلا أجدني"، أتساءل بمرارة كيف يمكن لنا على الأقل مجاراة ما يحدث بالذات لمن هم مثلي ليس لهم مهنة أخرى سوى هذه المهنة التي عشقناها، وأنظر لمن هم في أول الطريق وكأني سأصرخ بأعلى صوتي: لا تكمل الخطوة يا بني، إنه طريق وعر وغير آمن ومحفوف بالمخاطر.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة